شاهد/تعقيدات السياسة في ظل الأزمة العسكرية بجنوب اليمن

عدن الحدث/إليونوا أرماغي

يشهد جنوب اليمن صدامات بين المجموعات الانفصالية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المنضوية إلى جانب الحكومة المعترف بها دولياً، من أجل السيطرة على الأراضي في عدن ومحافظات جنوبية أخرى. قد يكون هذان الفريقان متحالفَين ظاهرياً ضد الحوثيين، أي المتمردين الشيعة المدعومين من إيران في شمال اليمن، ولكنهما يخوضان قتالاً في ما بينهما منذ أغسطس 2019. وفي العاشر من أغسطس، اقتحمت قوات موالية للمجلس الانتقالي الجنوبي القصر الرئاسي في عدن الذي يتخذ منه الرئيس هادي مقراً له وحيث تتمركز المؤسسات المعترف بها دولياً منذ الفرار من صنعاء بعد تقدُّم الحوثيين في عام 2015. وقد استهدفت المواجهة القصر الرئاسي (مع العلم بأن هادي لا يُقيم فيه) بهدف تقويض شرعية المؤسسات المعترف بها. وبعد سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على القصر الرئاسي، استهدفت هجمات جوية شُنَّت بقيادة السعوديين مواقع تابعة للانفصاليين في عدن. وقصفَ الإماراتيون قوات موالية للحكومة في 29 أغسطس مدّعين "الدفاع عن النفس" ضد هجمات إرهابية وشيكة. يعكس هذا الاقتتال العسكري الداخلي (فالقوات الجنوبية تنتمي جميعها ظاهرياً إلى الجيش اليمني النظامي) معركة السيطرة على البنية المؤسسية المستقبلية في اليمن. لا يزال الخصوم يختلفون في الرأي، منذ 2015، بشأن ما إذا كان يجب أن يكون اليمن دولة موحّدة أو منقسمة أو حكومة اتحادية. وتكشف المواجهات أيضاً أن التناقضات والتباينات، رغم أنها لم تحُل دون قيام جبهة مناهضة للحوثيين، لم تعد قابلة للاستدامة. وبعد أربع سنوات من القتال، بلغ الانقسام العميق داخل الجيش النظامي اليمني والتحالف الذي تقوده السعودية، نقطة اللاعودة. وتتسبب الاختلافات الجغرافية والعقائدية بتعميق النزاع العسكري. يُسيطر الضباط والجنود الشماليون على تركيبة الجيش بسبب التوحيد الذي تم بدفع من الشمال في عام 1990 وهزيمة الجنوب في الحرب الأهلية في عام 1994. وهكذا أُبقي الجنوبيون إلى حد كبير خارج الجيش الموحَّد. يُشار إلى أن للجنود في الجيش اليمني خلفية قبلية، وينتمي عدد كبير منهم إلى اتحاد قبائل حاشد الذي يضم عائلتَي صالح والأحمر. ويتشارك هؤلاء الجنود أيضاً روابط مع التجمع اليمني للإصلاح التابع للإخوان المسلمين والذي تجمعه صلات بالأوساط القبلية المحافظة. وقد عوّل الفريق الركن علي محسن الأحمر على هذه الشبكة من الولاءات القبلية - العسكرية الإسلامية في مأرب والجوف فأصبح نائباً للرئيس ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في فريق الرئيس عبد ربه منصور هادي. وبما أن الرئيس هادي كان في السابق نائباً لصالح خلال رئاسته البلاد، ينظر إليه الجنوبيون بصورة أساسية بأنه مدافِع عن مصالح الشمال، رغم أنه يتحدر من محافظة أبين الجنوبية. وفضلاً عن ذلك، لا تزال الكراهية حيّة في النفوس منذ الحرب الأهلية التي شهدها جنوب البلاد في عام 1986، وهي تؤثّر في التوازنات العسكرية الراهنة. يُشار إلى أن قادة المجلس الانتقالي الجنوبي ينحدرون في أكثريتهم الساحقة من محافظتَي لحج والضالع اللتين ألحقت فصائلهما الهزيمة بمحافظة أبين وهادي في عام 1986. أما القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي والساعية إلى الانفصال فتحشد المقاتلين المحليين على مستوى المحافظات والمناطق، فتقيم بذلك رابطاً مباشراً مع مسارح عملياتها. وتلجأ قوات الحزام الأمني التي تنتشر في عدن وأبين ولحج والضالع، إلى تجنيد المقاتلين بصورة أساسية من اتحاد قبائل يافع الكبير، فيما تُجنّد قوات النخبة الشبوانية مقاتليها من محافظة شبوة، ويتحدر مقاتلو قوات النخبة الحضرمية من محافظة حضرموت. تُشكّل هذه القوات العمود الفقري العسكري للمجلس الانتقالي الجنوبي منذ 2017، عندما أسّس محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي المجلس كي يكون للقضية الجنوبية تمثيلٌ مؤسسي. وتشمل هذه المجموعات العسكرية سلفيين واشتراكيين مسلّحين وأنصاراً لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة، وجميعهم يتشاركون تطلعات انفصالية. لقد أبدت السعودية والإمارات دعمهما للأفرقاء المتخاصمين في جنوب اليمن منذ بداية تدخلهما هناك. وقد ساهمت الإمارات، رغم أنها تدعم على ما يُزعَم حكومة هادي المعترف بها، في تنظيم قوات الحزام الأمني وقوات النخبة الشبوانية وقوات النخبة الحضرمية وتدريبها وتجهيزها بالعتاد ودفع الأموال لها من أجل بسط الأمن المحلي منذ منتصف عام 2015. هذا الواقع يعكس إستراتيجيات موازية التي تعتمدها السعودية والإمارات منذ بدء التدخل. وقد ركّز السعوديون جهودهم على شمال اليمن لاحتواء توسّع الحوثيين لاسيما من خلال حملات القصف الجوي. وفي غضون ذلك، شنّ الإماراتيون عمليات برية في الجنوب لمنع تسلّل الحوثيين والتصدي لنشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. لقد اندلعت مناوشات متقطعة سابقاً في الجنوب. فقد وقعت صدامات في عدن في أبريل 2017 للسيطرة على المطار. وفي يناير 2018، منعت القوات الموالية للحكومة المجلس الانتقالي الجنوبي من تنظيم تجمّع في المدينة، ولقي نحو أربعين شخصاً مصرعهم خلال اشتباكات دارت في الشوارع. بيد أن هذه الصدامات تكشف عن تصدّعات عميقة وتتسبب بتغيير قواعد اللعبة في المشهدَين السياسي والعسكري في اليمن. وتُسلّط الأزمة الراهنة الضوء على عدد من التناقضات في المشهد اليمني. في الواقع، لا تزال المجموعات المسلحة المنضوية في إطار المجلس الانتقالي الجنوبي تدّعي الاصطفاف إلى جانب الشرعية وهادي، (وتعادي الحكومة وتتهما بالإرهاب) رغم أنه وردَ في بيانها السياسي الأخير أن "الهدف الذي يسعى إليه أبناء الجنوب والمتمثل بإعادة إرساء الدولة الاتحادية المستقلة في الجنوب هو خيار نهائي ولا عودة عنه". وتنتمي جميع القوات المتخاصمة في جنوب البلاد إلى الجيش النظامي، نظراً إلى أن الحكومة المعترف بها عمدت لاحقاً إلى مأسسة الميليشيات الجنوبية. وفي عدن، يخوض الحرس الرئاسي، وهو وحدة نخبوية في الجيش تتولى حماية الرئيس هادي ويقودها نجله ناصر، قتالاً ضد قوات الحزام الأمني التي وُضِعت رسمياً تحت سلطة وزارة الداخلية في أواخر عام 2016. وبالطريقة نفسها، دُمِجت قوات النخبة الشبوانية في الجيش اليمني في عام 2016، وتخوض هذه القوات إلى جانب قوات النخبة الحضرمية صدامات الآن مع اللواء21 في الجيش في مدينة عتق، عاصمة محافظة شبوة الغنية بالنفط. لا يُشكّل الجيش ولا القوات الانفصالية كتلاً متراصّة. فالجيش يتنظّم حول شخصيتين تمارسان احتكاراً عسكرياً أقلوياً، وهما الرئيس هادي (في محافظة أبين)، ونائبه علي محسن (في محافظة مأرب). وقد كان لكليهما دورٌ في النظام القديم. فالرئيس هادي جنوبيٌّ انضم إلى السلطة الشمالية بقيادة صالح، ومحسن شماليٌّ فرضَ حكم صنعاء في الجنوب. علاوةً على ذلك، تعاني القوات الجنوبية من الانقسام الداخلي بسبب الصدام بين الهويات المحلية، وغياب التكافؤ في الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتضارُب المصالح. تتجه حضرموت عملياً نحو الحصول على حكم ذاتي بفعل الأمر الواقع بما يجعلها مستقلة عن المؤسسات المركزية. فهذه المحافظة تمتلك موارد كبيرة في مجالات النفط والغاز والمياه ما يتيح لها تعزيز آليات الحوكمة المحلية (المصارف والتحويلات المالية)، فيما يجري في الوقت نفسه البناء على الروابط التقليدية مع السعودية وأبناء حضرموت في بلدان الاغتراب. تُضاف صدامات عدن إلى سلسلة الأزمات التي واجهها الجيش اليمني منذ اندلاع الانتفاضة في عام 2011. فالانقسامات الفئوية والتحالفات المتبدِّلة التي تطبع السياسة اليمنية انتقلت إلى صفوفه. وفي عام 2011، تسببت الاحتجاجات المناهضة للحكومة بانقسام الجيش إلى فصيلَين متخاصمين: - فصيل داعِم للرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي استقال من منصبه في أواخر عام 2011. - فصيل مناهِض لصالح بقيادة الفريق الركن علي محسن الأحمر وعائلة الأحمر المرموقة (لا تربطها صلة قرابة بالفريق الركن علي محسن). وفي عامَي 2014 و2015، تسبّب التمرد الحوثي باشتداد هذه الانقسامات، فقد رسّخ الحوثيون دعائم تحالف ظرفي مع الفصيل العسكري الذي كان لا يزال موالياً للرئيس السابق صالح بغية تعطيل الانتقال السياسي بقيادة هادي. يؤدّي الانقسام المتزايد في صفوف الجيش إلى إضعاف الجبهة المناهضة للحوثيين، ما يزيد من المخاطر التي تُهدّد الأمن القومي السعودي. وبغية معالجة هذا الوضع، تؤدّي السعودية دور الوساطة في محادثات غير مباشرة بين الحكومة والانفصاليين في جدة، بهدف إعادة بناء القطاع الأمني في اليمن. مؤخراً شدّد خالد بن سلمان آل سعود، نائب وزير الدفاع السعودي وشقيق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، على الحاجة الملحة إلى "توحيد الصفوف والأصوات" في مواجهة التهديدات المشتركة التي يمثّلها الحوثيون وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. لكن المجلس الانتقالي الجنوبي رفض، وفق ما أُفيد، وضع قواته تحت سلطة الحكومة المعترف بها. وتتسبب مجموعة متنوعة من المتغيرات المتداخلة، مثل الهويات المحلية والأيديولوجيا والتركة السابقة والدعم الخارجي، بتعقيد الجهود الآيلة إلى تسوية النزاع في الجنوب. وتعكس الأزمة التي يمر بها الجيش راهناً هذه التصدعات وخطوط الانقسامات. وينبغي على الجهود الآيلة إلى نزع التصعيد وتحقيق المصالحة في الجنوب أن تأخذ في الاعتبار المشهد الأمني بعد عام 2011 وتأثيره على الجيش. فالانقسامات الفئوية والتحالفات الظرفية هي التي تقف وراء التصعيد بجنوب اليمن في الوقت الحالي. وإذا لم تجرِ معالجة هذه التناقضات السياسية، فغالب الظن أن تباينات جديدة ستظهر في صفوف الجيش، ما يؤدّي إلى مزيد من الانقسام والتفكك. "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"